عُثر على بقايا قطعة من الجبن تعود إلى العصر البرونزي في مقابر شمال غرب الصين، دُفن سكانها ونُثرت قطعًا من الجبن على رؤوسهم وأعناقهم، ربما كوجبة خفيفة تم تخصيصها للحياة الآخرة.
بعد مرور عقد على اكتشاف منتجات الألبان على بقايا رفات سليمة بشكل لافت للنظر، محنطة بسبب الظروف القاحلة في صحراء تاكلامكان، استخرج العلماء الحمض النووي من الجبن الذي يبلغ عمره 3600 عام، ويُعتبر الأقدم في السجل الأثري.
كشف التحليل كيف صنع شعب شياوهي الجبن، وأظهر الطريقة التي استغل بها البشر الميكروبات لتحسين طعامهم، وكيف يمكن استخدام الميكروبات لتتبع التأثيرات الثقافية عبر العصور.
وقالت كريستينا وارينر، الأستاذة المساعدة في العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجيا بجامعة هارفارد، غير المشاركة في الدراسة، إن النتائج التي نشرت في مجلة Cell الأربعاء، تفتح “أفقًا جديدًا في دراسات الحمض النووي القديم مع هذا النوع من الأبحاث التي لم يكن يمكن تصوّره حتى قبل عقد من الزمن”.
وتابعت: “لا يُعرف سوى القليل عن مجموعة متنوعة من الميكروبات التي استخدمها الناس في الماضي لإنتاج الأطعمة الأكثر شهرة اليوم، مثل الخبز، والجبن، والجعة، والنبيذ”.
تمكن فريق بقيادة عالمة الحفريات الصينية كياومي فو من تحديد الحمض النووي للماعز والأبقار في عينات الجبن. كما تمكن الباحثون من إجراء تسلسل للحمض النووي للميكروبات الموجودة في الجبن، مما أكد أنه الكفير، وهو نوع من الجبن لا يزال يُصنع ويُؤكل على نطاق واسع حتى اليوم.
وقالت فو التي تشغل منصب مديرة مختبر الحمض النووي القديم في معهد علم الحفريات الفقارية وعلم الإنسان القديم في بكين: “يتم إنتاج الأطعمة المخمرة اليوم بشكل كبير من خلال استخدام عدد قليل فقط من سلالات البكتيريا والخميرة التجارية المزروعة في المختبر”.
كيف صنع شعب صحراوي غامض الكفير؟
تم العثور على مئات الأفراد المحنطين في تسعينيات القرن العشرين داخل ما يُعرف بمقبرة شياوهي في حوض تاريم، وهي منطقة صحراوية غير مضيافة تقع في مقاطعة شينجيانغ الصينية. وتم الحفاظ عليها بشكل طبيعي بواسطة هواء الصحراء الجاف، ويمكن تمييز ملامح وجوه الجثث ولون الشعر بوضوح، رغم أنّ عمرها يصل إلى 4000 عام.
لطالما حيّرت مومياوات حوض تاريم، المدفونة بملابس مسننة ومنسوجة في قبور على شكل قوارب غير مألوفة علماء الآثار، كما حيّرهم أيضًا تنوّع التأثيرات الثقافية. ورغم الانتماء إلى مجموعة معزولة وراثيًا، إلا أنّ الأفراد تبنوا مع ذلك أفكارًا وتقنيات جديدة، وفقًا لدراسة أجريت في أكتوبر/ تشرين الأول 2021.
وتوصل البحث الجديد إلى أن شعب شياوهي لم يخلط أنواع حليب حيوانات مختلفة عند صنع الكفير، وهي ممارسة شائعة في صناعة الجبن التقليدية في الشرق الأوسط واليونان، رغم أن السبب ليس واضحًا.
ورأى تايلور هيرميس، الأستاذ المساعد بقسم الأنثروبولوجيا في جامعة أركنساس، غير المشارك في البحث أن “شعب شياوهي كان يصنع الجبن بالطريقة ذاتها التي يصنع بها المنتجون التقليديون جبن الكفير اليوم، أي باستخدام حبيبات الكفير المصنعة مسبقًا”.
وقال هيرميس، “هذا ما يجعل الدراسة مهمة للغاية، إذ يمكننا أن نرى كيف تم نقل هذه السلع الميكروبية وانتشرت في جميع أنحاء آسيا”.
تطور البكتيريا الحيوية
اكتشف فريق فو أنّ عينات الجبن الثلاثة المأخوذة من القبور تحتوي على أنواع بكتيرية وفطرية، ضمنًا Lactobacillus kefiranofaciens و Pichia kudriavzevii، والتي تُوجد بشكل شائع في حبيبات الكفير الحالية. والحبوب عبارة عن مزيج من البكتيريا الحيوية، والخميرة التي تخمر الحليب للحصول على جبن الكفير.
كما قامت فو وزملاؤها بسلسلة الجينات البكتيرية في جبن الكفير القديم، ما كشف عن رؤى حول كيفية تطور البكتيريا الحيوية على مدى 3600 عام الماضية.
اليوم، هناك مجموعتان رئيسيتان من بكتيريا Lactobacillus، واحدة نشأت في روسيا وأخرى في التيبت، بحسب الدراسة. يتم استخدام النوع الروسي على نطاق واسع عالميًا، ضمنًا الولايات المتحدة، واليابان، والدول الأوروبية، لصنع الزبادي والجبن.
عندما قارنت فو وزملاؤها Lactobacillus kefiranofaciens من جبن الكفير القديم مع الأنواع الحديثة، وجدوا أنها وثيقة الصلة بمجموعة أقل شيوعًا من Lactobacillus نشأت في التيبت.
ولفتت فو إلى أن أصول البكتيريا تتحدّى الاعتقاد السائد منذ فترة طويلة بأن الكفير بدأ فقط في منطقة جبال القوقاز.
وأفادت فو في بيان: “هذه دراسة غير مسبوقة، تسمح لنا بمراقبة كيفية تطور البكتيريا على مدى الـ3000 سنة الماضية. ومن خلال فحص منتجات الألبان، اكتسبنا صورة أوضح للحياة البشرية القديمة وتفاعلاتها مع العالم. وهذه ليست سوى البداية”.
وقال هيرميس إنّ ما يثير الدهشة أنّ الجبن لم ينجُ فحسب، بل كان يمكن إجراء تسلسل الحمض النووي من المواد الغذائية.
وأضاف: “تحليل الحمض النووي القديم، خصوصًا على الميكروبات، محفوف بالمشاكل التقنية التي تنبع في الغالب من التلوث بالبكتيريا الحديثة”.
متى بدأت صناعة الجبن حقًا؟
وعلّقت وارينر إنه لم يكن مستغربًا أن يقوم شعب شياوهي بتخمير الجبن. جعلت هذه العملية الحليب أكثر قابلية للهضم، حيث تنتج الميكروبات حمض اللاكتيك الذي يتسبّب بتخثر الحليب وتشكيل أساس الجبن.
وأوضحت: “في غياب التبريد، من المستحيل تخزين الحليب لأكثر من بضع ساعات مع بدء التخمير التلقائي، لذلك ربما لم يكن هناك وقت أبدًا فتمّ استخدام الحليب ومنتجات الألبان من دون تخمير”.
وأضافت: “مع ذلك، أصبح الناس بمرور الوقت أفضل في التحكم بعملية التخمير، واختيار الميكروبات المحددة التي تنتج التأثيرات المرغوبة أكثر في إنتاج الألبان”.
ولفتت وارينر إلى أنه في حين يُعتبر منتج الألبان الموجود مع المومياوات أقدم جبن سليم في السجل الأثري، فإنّ أدلة أخرى مثل البروتينات الحيوانية في حصى الأسنان البشرية وبقايا الحليب على الفخار تشير إلى أن صناعة الجبن نشأت في وقت أبكر بكثير، ربما منذ أكثر من 9000 عام، في الأناضول أو بلاد الشام.
ومن جهته، وجد ويليام تايلور، الأستاذ المساعد بعلم الأنثروبولوجيا في جامعة كولورادو بولدر، وأمين قسم الآثار في متحف التاريخ الطبيعي بالجامعة، أنّ التحليل الجينومي الذي أجراه الفريق كان رائدًا حقًا.
وقال تايلور، غير المشارك في البحث: “من المدهش أن نرى مدى تعقيد المنتجات التي كان الناس يصنعونها، والتي لا يتم حفظها عادةً في السجل الأثري”.
وأشار إلى أن “هذه النتائج المذهلة تُظهر لنا أنّ الجبن ومنتجات الألبان الأخرى كانت في الواقع الأساس لأسلوب حياة كاملة ستظل مهمة لآلاف السنين، ولا تزال تشكل جزءًا كبيرًا من الحياة اليوم”.