كنت من ضمن الفريق الإعلامي الذي قام بتغطية ما عرف ب “هبة نيسان” عام ١٩٨٩. كانت أولى تجارب العمل الميداني وأولى خبرات التعامل عن قرب مع التعبير العنيف عن “التوتر الاقتصادي الاجتماعي” الناجم عن جملة من العوامل الموضوعية، اختزلها البعض بأزمة الدينار وربطها البعض الآخر بالجوار.
المخرج جاء في حملة من الإصلاحات من بينها الميثاق الوطني وانتخابات ما زالت تعرف بأنها الأكثر نزاهة أردنيا وعربيا من حيث السماح للمعارضة القومية واليسارية والأهم الإسلامية في الوصول إلى نسبة مؤثرة في مجلس النواب، ومشاركة محدودة لكن دالّة ل “جماعة الإخوان المسلمين” في حكومة رئيس الوزراء، مدير المخابرات الأسبق مضر بدران.
عرض التلفزيون الأردني في الأيام الأولى من الأزمة برنامجا توثيقيا بعنوان: لمصلحة من؟ ومازال السؤال يطرح نفسه كلما تحول الاحتجاج السلمي -المتاح قانونيا- إلى أعمال تخريب بلغت للأسف في الأزمة الراهنة كلفا عالية تتصدرها أرواح الشهداء الذين قضوا أثناء عملية مداهمة وكر “تكفيري” يشبته بمسؤوليته المباشرة عن استشهاد مساعد رئيس شرطة محافظة معان -جنوب المملكة- العقيد (ترفع إلى رتبة عميد بعد استشهاده) د. عبدالرزاق الدلابيح (من قبيلة بني حسن- إحدى قبائل الأردن ذات الامتدادات في عدد من الدول العربية).
“لمصلحة من” هذه المرة أكثر تعقيدا، وذلك لبلوغ التحريض مستويات أكثر عدائية ودموية.. فما الذي يحل الأزمة الراهنة ويحول دون تكرارها بوتائر أسرع وأكثر حدة، لا قدّر الله؟
ثمة جملة من الأسباب الداخلية والخارجية أبرزها، الحاجة الماسة إلى حسم ثلاث ملفات وجودية يترتب عليها كل شيء: تحول الدولة من النظام الأبوي الرعوي إلى دولة المواطنة، دولة المؤسسات ودولة سيادة القانون. رغم توفر الإرادة السياسية عبر الأوراق السياسية التي كتبها العاهل الأردني عبد الله الثاني ابن الحسين، ورغم خطة التحديث التي تم تبنيها والشروع في تنفيذها، إلا أنه من الواضح أن الإعلام الوطني بجناحيه الرسمي والأهلي، قد أخفق في توفير الحشد الشعبي اللازم لكثير من القرارات المصيرية التحولّية، ومن بينها الإقرار بأن الطرق والوسائل السابقة لحل اختلالات الموازنة ما عادت متاحة. أعتقد أن القرار خارجي بحت، وإن أتاح بعض المساحات الشكلية للمناورة في آليات التنفيذ.
المؤسف، أنه كلما تصدى قيادي حقيقي أو مسؤول لمظاهر وأحيانا محاولة الاقتراب من جوهر المشاكل المزمنة التي يعاني منها المجتمع وليس فقط الحكومة الأردنية، انبرت له قوى الشد العكسي، وليتها كانت منتظمة حتى يتاح التعامل معها. فهي هلامية وكثيرا من الأحيان متداخلة لقوى تتصدى للإصلاح أو تزعم ذلك. حتى شعبيا، تحول التنفيس أو التشويش إلى حلقة مفرغة من التندر والتنمر الذي لا يخلف إلا مزيدا من الإحباط وانعدام الثقة.
في ألف باء الاتصال والتأثير معروف أن العنف أصله سوء اتصال أو انقطاعه. لذلك تزداد أهمية المنابر الصحفية والثقافية في تحقيق التغير أو التغيير في أي اتجاه كان.
بالعودة إلى أحداث “الجنوب” التي تكررت بعد “أزمة الدينار” في عهد حكومة بدران ب “أزمة الخبز” إبان حكومة عبد الكريم الكباريتي، تبرز الحاجة إلى مصارحة وطنية في المقام الأول حول أي أردن نريد؟ هل نريده حرا سيدا معافى واعدا؟
الانفعالية والشحن العاطفي -في أي اتجاه كان- لا يغير عشرا في رقم بالموازنة العامة للدولة، ولا في ملاءتها المالية، ولا في قوتها الاقتصادية أو سمعتها الاستثمارية.. ثمة حاجة إلى الكف عن الخطابة في مواجهة كل خطب تمر به المنطقة والعالم. “الربيع العربي” و”صفقة القرن” ووباء كورونا وحرب أوكرانيا لها مقدماتها ونتائجها، من بينها أسعار الخبز والمحروقات، وهي مدعومة تاريخيا وسلاسل التوريد وكلف الشحن، وهي أيضا معضلة عانى الأردن منها كثيرا منذ تداعيات حرب احتلال وتحرير الكويت وما تلاها من تطورات انتهت بإسقاط النظام وإضعاف الدولة والمجتمع في العراق، أحد أهم القوى المؤثرة في الاقتصاد الأردني.
من غير المعقول ولا المنصف أن يستمر الأردن في تحمّل ما رفضت دول أكبر منه في الأرقام الخاصة بمعادلة الموارد والسكان هذه الموجات المتلاحقة من الهجرة واللجوء. ومن غير اللائق وغير الصحيح أن يهرب الجميع من مواجهة الحقائق بتبريرات أو تسويفات لأي اعتبارات نبيلة كانت. الأرقام والحقائق أولى بالاتباع عند رسم السياسات ومنها الإعلامية، وقد آن أوان تسمية الأشياء بأسمائها: الأردن بحاجة إلى تخفيف أحمال وتصحيح مسارات ولذلك نمط من القيادات الوطنية الواجب توفرها ودعمها محليا وخارجيا، وخاصة من دول الجوار والحلفاء والأصدقاء القدامى والجدد.
الرسالة يجب أن تكون: ادعمونا.. وقد قالها العاهل الأردني بعد زيارتين في أقل من عام إلى أكبر داعم للموازنة الأردنية، الولايات المتحدة: نساعد أنفسنا في الأردن وفي الإقليم (الشرق الأوسط) حتى يساعدنا الآخرون.