حاول البيت الأبيض التقليل من وطأة ما وصفه ب”المشهد السيّء”. أن ترى عدوك الأول جنباً إلى جنب مع حليفك الأول وأكثر من تحتاج إليه في ملف الطاقة، ذلك قطعاً ليس بالأخبار الجيدة. القمم الصينية الثلاث في السعودية خطفت الأضواء حتى في المؤتمر الصحفي اليومي للمتحدثة باسم البيت الأبيض من الخبر السعيد الذي أعلنه الرئيس الأمريكي جو بايدن بنفسه صباح الخميس عن إبرام صفقة تبادل سجناء (لم تشمل إلا واحدة بواحد). حتى هذا النجاح اتضح أنه بفضل وساطة سعودية إماراتية.
القمم الثلاث تم الإعداد إليها قبل عامين، بحسب البيت الأبيض في معرض رده على أنها جاءت ردا على القمم الأمريكية الثلاث في السعودية أيضا في يوليو/ تموز الماضي. بصرف النظر عن ذلك “الإعداد” الذي استغرق عامين، فإن ما شهده العالم والشرق الأوسط من أحداث فرض نفسه على مجريات تلك القمم والتي عبرت عن نفسها بالبيانات الرسمية الصادرة عنها.
قبل الخوض في بعض عناوين القمم، يجدر التسليم بالمتفق عليه بين الجميع… العالم تغير ومقبل على مزيد من التغيير. وباء كورونا وحرب أوكرانيا ما هي إلا مقدمة هذا التغيير الذي لمسنا ارتداداته حتى فيما كنا نظنها أكثر دول العالم وأوروبا استقرارا، ألمانيا. من كان ليتخيل وقوع انقلاب “فاشل” بقيادة اليمين المتطرف في ألمانيا التي وحّدها المستشار الراحل هيلموت كول كدليل على انتهاء الحرب الباردة.
لا تقرأ نتائج القمم الصينية من بياناتها فقط، بل في سياق ما انتهت إليه القمم الأمريكية. خصوصية الدور السعودي والإماراتي لربما ينير زوايا الاشتباك بين تلك القمم، أو بعبارة أخرى الموقف بين الحليف الاستراتيجي التاريخي، أمريكا والتوجه غربا، والحليف الموازي أو البديل، الصين والتوجه شرقا، وأعني روسيا وانضمام السعودية الوشيك لمجموعة دول “بريكس”.
واضح أن دول عربية عديدة -ليست الكبيرة والغنية فقط- نجحت بدبلوماسيتها عالميا وشعبيتها داخليا، بالقول “لا” للحليف التاريخي. من القادة الذين انشغلت بهم الصحافة ومراكز البحث والفكر الأمريكية: قادة السعودية والإمارات ومصر والمغرب والجزائر والأردن. الأردن وحده من الدول الأكثر قربا إلى أمريكا والأكثر حاجة إلى دعمها قال “لا” أو بلغة العاهل الأردني عبد الله الثاني ابن الحسين “كلا” لصفقة القرن، رغم كل المغريات والضغوطات، متعددة الأطراف.
الاستقلالية والسيادة، بل والنديّة في الطرح،خرجت إلى العلن في اللقاءات الخاصة بالشرق الأوسط. البعض نسب ذلك إلى نيّة أمريكية مبيّته للانسحاب من الشرق الأوسط، والتبرير كان للتفرغ لروسيا والصين،فأتت القمم الصينية السعودية والخليجية والعربية لتدحض ذلك.
والزعيم الصيني شي جين بينغ، عندما يتحدث الآن، يتحدث بعد إعادة انتخابه من قبل الحزب الشيوعي الحاكم، وبعد لقائه نظيره الأمريكي في قمة العشرين وبعد -وهذه إشارة دالة- بعد تعمّد “توبيخه” رئيس وزراء كندا جاستن ترودو علنا، على تسريب فحوى محادثات مغلقة إلى الصحافة. التسريب مسألة سبق وأن امتعض منها علانية عدد من القادة الدوليين من بينهم القادة العرب.
فهل يكون مما اتفق عليه مزاحمة أو حتى وراثة الـ”يوان” الصيني للدولار الأمريكي في مبيعات النفط والغاز؟ كانت تشكو واشنطن مرارا مما وصفته تلاعب بكين في تسعير العملة لضرب التنافسية الأميركية، فماذا سيعني ذلك سوى الحرب التجارية؟
عندما يقول ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إن بلاده تدعم “بشدة” سياسة الصين واحدة، ماذا يعني ذلك؟ وماذا يعني “ضمان” الصين لأمن السعودية وتنديدها باستهداف المدنيين في المملكة، والإعلان عن استثمارات صينية ضخمة في “جازان” جنوب غرب السعودية المحاذية لليمن وثالث أكبر الموانئ السعودية..
من الجلي أن الإعلان المشترك عن دعم “رؤية 2030” السعودية مع “مبادرة الحزام والطريق” الصينية تمضي قدما في تغيير الوضع الراهن “ستاتس كو” على الأقل في منطقة الخليج وربما أكثر. لكن طريق الحرير “الجديد” لن يسلم بالضرورة من الأشواك. عين على إيران وأخرى على أفغانستان التي أكدت الصين ضرورة عدم السماح بعودة الإرهاب إليها أو منها. معلوم أن الصين سارعت إلى ملء فراغ الانسحاب الأمريكي “الكارثي” ولديها علاقات جيدة مع طالبان.
تبقى إيران المرشحة الأوفر حظا في محاولة تعطيل فرص استقرار الشرق الأوسط بعد ما قد يفهم على أنه تراجع أمريكي لصالح الصين وروسيا. صحيح أن طهران شبه متحالفة مع بكين وموسكو إلا أن الأمر منوط بملفي الثورة على نظام الملالي والاتفاق النووي الجديد.