عودة مجالس المحافظات..والالتفاف على الاصلاح
مقال للصحفي: وسام رشيد الغزي
الغاية من إقرار مجالس المحافظات بعد حكم شمولي مركزي يتدخل بأدنى القرارات المتعلقة بمواطني المحافظات، المتباينة جغرافياً، واجتماعياً، بل رُبما حتى بالعادات والتقاليد والممارسات اليومية، فضلاً عن الاختلاف العقائدي والدّيني والقومي.
بعد سنين طويلة من محاولات تجريف الملامح الطبيعية والخاصة ببعض أجزاء المجتمع العراقي، وصهرها في بوتقة واحدة من قبل سلطة مارقة أستخدمت الحديد والنار لفرض فلسفة واحدة لتيار سياسي لم ينجح في تنظيم حتى العلاقة بين أفراده وعناصره. وبعد سنوات من التخبط، ولدت فكرة إنشاء مجالس المحافظات في العراق الجديد (عراق ما بعد 2003)، استناداً الى المادة الاولى من الدستور التي تقضي بأن العراق دولة (فيدرالية) أي السماح لمحافظاته بالتمتع بالصلاحيات الإدارية (لامركزية إدارية كما هي في المحافظات)، والسياسية (لامركزية سياسية كما هو الحال في إقليم كردستان)، تعكس تطلعات، ورغبات، مواطني المحافظات، ضمن الأطر العامة للدولة العراقية.
شرَّع الدستور العراقي قانوناً لوضع الإدارات المحلية على سكة التعاطي مع المواطن بشكل مباشر، ليكون رديفاً (قريباً) من هواجس الناس في محافظاتهم، وينفذ احتياجاتهم الخدمية، المتناغمة مع الطبيعة الجيوسياسية للحياة العامة، مع إلزامه بمبادئ الوحدة الوطنية من خلال الالتزام بالتشريعات المركزية، والقرارات الحكومية، والتي تكون لها الغلبة الحتمية في التنفيذ وكسر أي قرار محلّي يتعارض مع التوجه العام للدولة.
تجربة منح شيء من الصلاحيات المحلية، يبرز الكثير من الطاقات الإيجابية للمحافظات، سواء على مستوى الإدارات أو أفراد المجتمع، وقد نتج عنه نجاحات كبيرة في دول العالم المتقدم، والتي تتجه نحو اللامركزية في تسيير شؤون الدولة بطريقة تتماشى والظروف الموضوعية لكل تجربة، ونتج عن ذلك نجاحات متعددة وكبيرة منحت الحكومات المركزية فرصة أكبر في الاهتمام بقضايا شعوبها الاستراتيجية وخاصة في مجالات الأمن، والسياسة الخارجية، والتجارة.
وبعد ثلاث دورات انتخابية لمجالس المحافظات في العراق، تجاوزت جميعها المدد القانونية المقررة لها (4 سنوات)، فرزت هذه التجربة واقعاً مريراً ونتائج غير مرغوب بها لضرورة وجود هذا الكيان الدستوري أثقلت كيّان الحكومة المركزية؛ فمسؤولياتها تعززت عبّر محاسبة ومراقبة قرارات المجلس والتضارب مع التوجهات العامة للحكومة الاتحادية، بل تطور الأمر لجملة من القرارات غير الدستورية، ولنا في وجود عشرات الدعاوى أمام القضاء الإداري خير مثال عن ذلك.
أمست تلك المجالس غطاءً لدكاكين الأحزاب من خلال رعايتها لاقتصاديات تلك الأحزاب والتيارات السياسية، وتبنيها توزيع ثروات المحافظات، وشركات إدارة المشاريع فيها، بين تلك الأحزاب التي شكلت المجلس داخل المحافظة الواحدة، وشرّعت سلسلة من القرارات المحلية الضامنة للحد من تدخلات الوزارات ببعض القرارات التي تتعارض مع توجهات المجالس من منظور مصلحي فئوي ضيّق، فتقاسمت كل شيء بدءاً من أراضي عقارية، ومديريات الدوائر، ومقاولات الإعمار والتنظيف، وليس انتهاءً باستيلاء الكثير من أعضاء تلك المجالس على الأراضي الخضراء المخصصة للترفيه عن المواطنين وتحويلها لمراكز تجارية.
وتطورت الأمور بعد ذلك لتصبح مجالس المحافظات ساحة للمعارك السياسية بين الأحزاب التي تكالبت على السلطة، لتكون هذه المجالس مضماراً يحتوي انعكاس الصراعات على المواقع السيادية في المؤسسات الاتحادية في بغداد، وبقيّت علاقة المجالس مع المواطن في المحافظات لا تتعدى علاقته مع أعضاء مجلس النواب والدرجات الحكومية الخاصة، مما ولّد شعوراً شعبياً متنامياً بعبء هذه المجالس على كاهل الدولة العراقية وعلى كافة الصُعد، لاسيما الصعيد الاقتصادي.
تجلَّت رغبة المواطنين في الخلاص من هذا الكيّان المُرهِق(حسب تقديرات المراقبين) من خلال مطالبة المتظاهرين منذ شهر تشرين الثاني من العام المنصرم، أن يكون إلغاء تلك المجالس المطلب الأول بغض النظر عن دستورية وقانونية هذه الرغبة، ومن هنا كانت دعوة رئيس مجلس النواب في الأيام الأولى للاحتجاجات في ساحة التحرير وباقي ساحات الاحتجاج في المحافظات، بإقرار حزمة من القرارات النيابية، في مقدمتها إيقاف عمل مجالس المحافظات، والشروع بالإجراءات القانونية التي تضمن تطبيق القرار.
إنَّ مسؤولية مجلس النواب هو تحقيق إرادة الشعب العراقي، لآنه – من المفترض – أن يكون ممثلاَ لتلك الإرادة، لكنه أيضاً مطالَب أن يحافظ على قانونية القرارات ودستوريتها، وعليه فإنه أمام خلق توازن بين التصريف القانوني والتكييف الدستوري، وبين تخويل الشعب الاعتباري بضرورة تحقيق رغباته المعلنة، ومع كل ما تقدّم نتطلع الى أن يحقق المجلس بدورته الحالية تطلعات شعبه، بغض النظر عن كل تلك الجدليات التي لم يجني منها العراقيون سوى مزيد من المعاناة.