المتمرد الكبير
jasim a
السياسية, المحلية, منوعات
المتمرد الكبير
مقال للصحفي : وسام رشيد
كانت السنين تجري و الحياة وكل شيء من حولي متوقف، حتى أحلامي وإمنياتي ونظرتي للمستقبل كانت مغيّبة، وكل العراقيين يشكرون القائد المنتصر، على (الكرامة)كل البلاد كانت أسيرة، والموت المجاني ينتظر كلُ من يرفع حاجييه تذمراً او ينبت ببنت شفه ،حتى إن أحد المواطنين، كان يستقل باصاً لنقل الركاب، قد شكى من إنقطاع التيار الكهربائي المستمر في ظل ارتفاع درجات الحرارة في صيف ٍ لاهب ، فما كان من رجل الأمن الذي كان بجانبه في نفس السيارة الا ان يعتقله ويسجنه في غرفة ويضع فيها مدفأة شتوية..! ليخرج بعد أيام يُسبّح بحمد القائد الملهم الضرورة.
كنت حينها طالباً في الإعدادية، حينذاك شاع خبرٌ بين الناس ان رجل دين سيعلن إقامة(صلاة الجمعة)دون رضى وموافقة النظام القمعي آنذاك! كنا نتداول الأمر وكأنه أمنية أو مزحة أو مسرحية من انتاج دوائر النظام التي تعودنا رؤيتها بين فترة وأخرى.
عرفنا ان السيد محمد محمد صادق الصدر هو من سيقيم هذه الصلاة الامنية ، كان أسم عائلة الصدر يحمل احتراماً وقدسيةً خاصة في الأوساط الشعبية، لإرتباطه بالشهيد محمد باقر الصدر وأخته السيدة آمنة ” بنت الهدى ” والشهيد المغيب موسى الصدر.
تناولت الاوساط الشعبية إسم المرجع محمد الصدر في حينها، كان هناك نموذجاً مشوشاً من الشعور لدينا نحن الطلبة المتشوقين لرؤية من يُعارض ويرفض الدكتاتورية والظلم ،كنا توّاقين لمشاهدة نموذجاً يصارع الطغاة، ليكون لنا أملاً نسترجع فيه وطننا الذي يغيبه نظام البعث يومياً في دهاليز السجون وحفر المقابر الجماعية.
تلقينا أخبار المرجع الجديد برغبة وردود فعل متناقضة، نتيجة فقدان البوصلة والتشويش الذي كان سائداً بقوة آنذاك، فتارة نهوّن من أمره، وتارة أخرى نشكك في مصداقية نهضته، وضعف قدراته، وتارة أخرى نتهمه بالتعاون مع السلطة المارقة، فمن ذا الذي يستطيع ان يجمع حوله المريدين دون ان يكونوا من اعوان النظام او رجال أمنه او “فدائيِّ صدام ” أو استخبارات أو وكلاء السلطة المنتشرين بين الناس في كل مكان.
بدى الارتياح يتسلل الى نفوسنا رويداً رويدا ، كما بدت حزمة التشويش تنقشع من افكار البعض ،وبدأت التساؤلات العقلانية تجد سبيلها الى عقولنا، التي اتعبها النظام المتسلط .
السيد محمد الصد من عائلة الصدر المعروفة بتاريخها الوطني، وتردد في حينها ان لا يمكن لمن ينتمي لعوائل مثل الصدر أو الحكيم، ان يتاجروا بالدين او يكونوا مع السلطة الغاشمة او يساوموا على مصير أتباعهم.
بعد أشهر وضحت الصورة، السيد ابو مصطفى عالم جليل واحد المقربين من الشهيد المحبوب جداً في اوساطنا ” محمد باقر الصدر” و احد اساتذة الحوزة العلمية المتميزين بعدد كبير من الأبحاث القيمة ،فالموسوعة المهدوية لوحدها تكفي أن تُسلّم بمنهجه غير المألوف في أوساط المؤسسات الدينية آنذاك.
ومع اعلان خطبته في الجمعة الاولى كانت الحماسة تنساب في عروقنا، إنها المعارضة! معارضة النظام و رأسه صدام أصبحت ممكنة! لم نعد مُستسلمين الى النهاية! لا بُد من نهجٍ جديد يعيد لهذا الشعب حيوته ويُمكّنه من قدراته على التغيير، وتجمعت رغبات الناس العامة في ارسال رسالة رفض للسلطة عبّر الحضور، فتسابق الجميع للحضور، وضاقت المساجد والشوارع المحيطة بها بالرافضين، حتى أن احد اصدقائي من الديانة الصابئية وأسمه “فاهم” كان يشجع الطلبة على الذهاب لصلاة الجمعة ويتوعدهم ان لم يذهبوا سيحضر بنفسه رغم انه صابئياً، كنا ننتظر الجمعة وكأنها تظاهرة رفض واعلان براءة من النظام المستبد.
نعم نحن رافضين ومصلين سويةً ، ورغم سكوتهم لم يكن الحاضرين متديينين فقط، بل أجزم إن الدافع الأول والحرص على التواجد في المساجد التي اصبحت قلاع مقدسة لرفض السلطة هو الاحتجاج، والمعارضة، وليس بدافع الدين وإقامة الصلاة، على الأقل بين الأوساط التي عايشتها انا كطالب متمرد ومتذمر من فرط ظلم النظام القاتل ، كانت هواجسنا تمتزج بأحلامنا، هل يتطور خطاب الصدر ليعلن الثورة، أو إن خطاباته التي يوحي في كثير منها لرفض اجراءات السلطة كافية لخلق مزاج عام شعبي يستطيع من خلالها المناورة..؟
وما ان حلت ساعة الاغتيال التي لم تفاجئنا مطلقاً حلت معها خيبة أملنا الكبير في مجتمعنا الذي سرعان ما تناسى تلك الخطوة الاحتجاجية، التي بعثت فينا روح المبادرة والامل ، افتقدناه بل لم نشهده من قبل، فمات ” الليث الأبيض” كما كنا نطلق عليه، الليث الذي علمنا ان لا نسكت، وماتت معه أحلامنا وآمالنا، ورجعنا نخاصم بعضنا ونعاتب انفسنا لصالح السلطة ورجالاتها القذرة.
وبعد أكثر من عشرين عاماً على الإستشهاد، يحتفي الناس (الصدريون بغالبيتهم) بذكرى الشهادة، ولا يحتفلون بذكرى المنهج، منهج الرفض والاحتجاج للسلطة المارقة أياً كانت بعثية او دينية، فالظلم لا دين له ولا منهج،، والقتل يسمى قتلاً بالسرقة والتجويع او تجريف مستقبل البلاد او دفن أبنائه في مقابر الرعب الجماعية.
ولو قُدر أن عاد ذلك الثائر الشجاع البسيط اليوم لعلمنا مرة أخرى التظاهر والرفض للكثير من الذين يضعون صوره على مؤسساتهم أو بعض المحتفلين بذكراه من المتسلقين والمتسابقين لنيل المغانم برفع الشعارات المشوهة والمغلوطة، فالمنهج واحد وسلوك العدل سارٍ حتى النهاية فيسقط من يسقط ومن يبقى على العهد هو من يفوز في النهاية ولا عزاء للمنافقين.
رحم الله الشهيد محمد الصدر يوم ولد ويوم رفع صوته بكلمة الحق بوجه سلطان جائر، ويوم ايقظ فينا روح التمرد على الظلم، ويوم سقط شهيداً هو وولديه ، ويوم يبعث حياً ليكون شاهداً علينا جميعاً .