حبيب الملا يكتب عن تنازع القوانين الاتحادية والمحلية بشأن هتك العرض بالرضا بالإمارات

أصدرت مؤخرًا المحكمة الاتحادية العليا – دائرة النقض الجزائي – في الطعن رقم 470/2021 حكماً برفض طعن تقدمت به متهمة وتأييد الحكمين الصادرين من المحكمة الاتحادية الابتدائية والمحكمة الاتحادية الاستئنافية في إمارة الشارقة.

وتعود وقائع الدعوى إلى قيام النيابة العامة بإحالة متهمة إلى المحاكمة الجنائية بوصف أنها كونها أنثى تبلغ من العمر أكثر من ثمانية عشر عاماً مكنت رجلاً من مواقعتها مواقعة غير مشروعة برضاها وطلبت معاقبتها طبقاً للمادة 172 من قانون العقوبات المحلي لإمارة الشارقة الصادر سنة 1970.

دفعت المتهمة التهمة عن نفسها، ضمن دفوع أخرى، بأن فعل هتك العرض بالرضا قد رُفع عنه التأثيم والتجريم عملاً بالمرسوم بقانون رقم 15 لسنة 2020 الصادر بتاريخ 17/9/2020. إلا أن محكمتي الموضوع طبقتا على الواقعة قانون العقوبات المحلي الصادر عن إمارة الشارقة وأيدت المحكمة الاتحادية العليا هذا التوجه بتأييدها الحكمين الصادرين عن محكمة الموضوع فقضت بتجريم الواقعة بموجب أحكام قانون العقوبات المحلي.

وكان المُشرع الاتحادي فى دولة الإمارات قد أجرى تعديلات على قانون العقوبات الاتحادي رقم 3 لسنة 1987، وذلك بموجب المرسوم بقانون رقم 15 لسنة 2020، تضمنت إلغاء بعض المواد المتعلقة بجريمة هتك العرض بالرضا الأمر الذى كان مثار اهتمام واسع من المقيمين فى الدولة.

ولقد أثار الحكم الصادر عن المحكمة الاتحادية العليا جدلاً قانونياً بين من يرى أن الحكم تضمن مُخالفة دستورية لنص المادة 151 من دستور دولة الإمارات التي نصت على أن ” لأحكام هذا الدستور السيادة على دساتير الإمارات الأعضاء في الاتحاد، وللقوانين الاتحادية التي تصدر وفقاً لأحكامه الأولوية على التشريعات والقرارات الصادرة عن سلطات الإمارات. وفي حالة التعارض يُبطل من التشريع الأدنى ما يتعارض مع التشريع الأعلى وبالقدر الذي يزيل ذلك التعارض وعند الخلاف يُعرض الأمر على المحكمة الاتحادية العليا للبت فيه”.

وبناء على هذا الرأي كان يتوجب تطبيق القانون الاتحادي وإباحة فعل المواقعة.

بينما ذهب آخرون إلى أن المادة 151 من الدستور مقيدة بتحقق التعارض. والتعارض يتحقق حينما نكون بصدد نصين متعارضين، أما في حالة غياب النص في التشريع الاتحادي ووجوده في التشريع المحلي فإننا لا نكون أمام حالة التعارض الواردة في المادة 151 من الدستور.

ويرى هؤلاء أن إلغاء التشريع الاتحادي للنص العقابي أدى إلى وجود فراغ تشريعي يمكن للتشريعات المحلية أن تملأه. وأن هذا ليس إلا تطبيقاً لنص المادة 149 من دستور دولة الإمارات التي تنص على أنه استثناءً من أحكام المادة 121 يجوز للإمارات أن تطبق التشريعات اللازمة في المادة المذكورة. وأنه في حالة خلو التشريع الاتحادي من نص يعالج الواقعة المطروحة فإنه يحق للإمارات الأعضاء في الاتحاد تطبيق قوانينها المحلية.

ونظرًا لأهمية هذا الحكم وما قد يتبعه من أحكام فإن الأمر يستدعى بحث الجوانب المتعلقة به كافة للوقوف على التطبيق القانونى الواجب فى مثل هذه الحالة. وباستعراض النصوص التشريعية كافة، منها الدستور والقوانين الاتحادية والمحلية يرجح أن مآلات النصوص قد تغاير ما ذهب إليه الحكم الصادر عن المحكمة الاتحادية العليا حينما قضى بتطبيق قانون العقوبات المحلي الصادر عن إمارة الشارقة وغاير الإرادة التشريعية التي عبر عنها المرسوم بقانون رقم 15، وآية ذلك الآتي :

  • أن مناط استنباط الأحكام من النصوص وتنزيلها على الوقائع لا يكون من خلال التطبيق المجرد للمباني والألفاظ التي سبكت التشريع. وإنما يكون أيضاً من خلال استشفاف الغاية التشريعية التي تدل عليها النصوص وتهدي لها المعاني التي تضمنتها بنود التشريع وكلماته. وهذا ما ذهبت إليه بحق محكمة التمييز في إمارة رأس الخيمة في الطعن رقم 2 لسنة 16ق 2021 حين قررت أن الأصل في تفسير نصوص التشريع هو اتباع منهج التفسير اللغوي أو اللفظي للنص باستنباط المعنى الذي أراده الشارع من الألفاظ والعبارات التي يتكون منها النص، سواءً من عبارته أو إشارته أو دلالته. فإذا تعذر على القاضي الوقوف على قصد التشريع عن طريق التفسير اللغوي، أو أدى هذا التفسير إلى نتائج غير منطقية تتعارض مع الغايات التي توخاها المشرع من التنظيم القانوني لأمر معين، أو كان التفسير يتنافى مع مبدأ الشرعية، فلا مناص حينئذ من هجر المنهج اللغوي في التفسير إلى المنهج المنطقي، صعوداً من معنى عبارات النص إلى روحه، حتى بلوغ قصده، وذلك بالاستعانة بعناصر خارجة عن النص ذاته منها الأعمـال التحضيرية، والمصادر التاريخية له، والحكمة من النص، والجمع بين النصوص”.

وبناءً على ذلك فإن المشرع الاتحادي حينما أصدر المرسوم بقانون رقم 15 لسنة 2020 وعدل المادة الأولى من قانون العقوبات الاتحادي وأخرج فعل هتك العرض بالرضا أي وطئ الرجل لامرأة بالغة عاقلة بالتراضي والاتفاق من نطاق جرائم الحدود، ولم يعد هذا الفعل فى بعض صوره يشكل جريمة في القانون الجزائي التعزيري، فإنما عبر عن إرادة صريحة في إخراج بعض صور هذا الفعل من نطاق التأثيم الجنائي إلى مجال الإباحة وعدم التجريم. لذلك فإن العودة إلى تجريم هذا الفعل من خلال نصوص التشريع المحلي فيه إهدار لإرادة المشرع الاتحادي في هذا الشأن وإيراد لما لم يرده.

أما القول بأنه بإلغاء التشريع الاتحادي للنص العقابي يصبح المجال ساحة مفتوحة لفراغ تشريعي يمكن سده بنصوص التشريع المحلي فإن هذا القول كان يمكن أن يكون له محل من الاعتبار في واحدة من حالتين؛ الأولى، أن يأتي التشريع الاتحادي بنص صريح يترك فيه أمر تجريم الفعل للتشريع المحلي.

ومثال ذلك ما ورد في المادة 313/2 من المرسوم بقانون رقم 15 المشار إليه آنفاً حينما نص على حق “كل إمارة تنظيم استخدام وتداول وحيازة المشروبات الكحولية أو الإتجار بها”. ‏ففي هذه الحالة أتى المشرع بنص صريح أطلق به يد المشرع المحلي في تحديد الإطر التنظيمية للحالة المعنية.

والحالة الثانية أن يمتنع المشرع الاتحادي عن تجريم الفعل أصلاً بألا يورد نصاً بتجريمه من الأصل. أما أن يأت المشرع الاتحادي بنص يجرم الواقعة ويحسر بذلك إمكانية تجريمها من خلال النصوص المحلية، ثم يأتي بعد ذلك بنص يرفع فيه التجريم عن الفعل فإننا لا نكون والحالة هذه أمام فراغ تشريعي يستدعي جلب النصوص التشريعية المحلية لأن في ذلك تجاهل لإرادة المشرع الاتحادي الذى قصد إباحة الفعل أو بعض صوره وذلك بتجريم فعل قصد المشرع إباحته.

ومن ناحية أخرى، فإن القول بأن قانون العقوبات الإتحادى فى الإمارات لا يعاقب على جريمة هتك العرض بالرضا هكذا بالمطلق قول يجانب الصحة ولا يوافق السداد. فقانون العقوبات الاتحادى قد تضمن نصًا صريحًا فى مسألة هتك العرض بالرضا وأوقع له عقوبة وذلك فى صلب المادة 356 من المرسوم بقانون رقم 15.

حاصل ما فى الأمر أنه خصه بحالات معينة من السن أو بعارض من عوارض الأهلية. وفى ذلك تنص المادة 356 من المرسوم بقانون رقم 15 على الآتي:

“ويعاقب على هتك العرض بالرضا بذات العقوبة المنصوص عليها في الفقرة السابقة، إذا كان سن المجني عليه ذكراً أم أنثى أقل من أربعة عشر عاماً، أو إذا وقعت الجريمة على شخص لا يُعتد بإرادته، لصغر السن أو الجنون أو العته”. فأين هو الفراغ فى التشريع الاتحادى المستوجب ملأه بنصوص التشريع المحلى؟

بل على النقيض من ذلك فإن حاصل مراد هذا النص أن واقعة هتك العرض بالرضا في غير الحالات المنصوص عليها في هذه المادة حصراً ليس من شأنها أن تشكل جريمة ولا أن تستدعي عقاباً. فكيف فات على الحكم مثل هذا النص الواضح الصريح فى الدلالة على غاية المشرع وقصده، خاصةً فيما هو مجرم من حالات هتك العرض بالرضا وما هو غير مجرم منها. خاصة إذا أضفنا إلى ذلك أن عامل الشك في المسائل الجزائية، وذلك على افتراض وجود مثل هذا الشك أصلا، يفسر لصالح المتهم.

ومن جهة أخرى، فقد عارض الحكم نص المادة الثالثة من المرسوم بقانون الاتحادي رقم 15 الذي ينص على أنه “يلغي كل حكم يخالف أو يتعارض مع أحكام هذا المرسوم بقانون” . ولفظ “كل حكم” جاء مطلقاً دون قيده بكونه حكماً اتحادياً أو محلياً. والقاعدة في التفسير أن المطلق على إطلاقه والعام على عمومه مالم يرد عليه قيد يحد من هذا الإطلاق أو يخص من هذا العموم.

فضلاً عن ذلك فإن هذا الحكم يستحضر للنقاش أمرًا ربما لم يسبق التعرض إليه ألا وهو جواز قيام محكمة اتحادية بتطبيق نصوص التشريع المحلي. إن الأمر الذي لا خلاف عليه هو أن المحاكم المحلية ملزمة بتطبيق القوانين الاتحادية حالها حال المحاكم الاتحادية، فالمادة 111 من الدستور تنص على وجوب العمل بالقوانين بعد شهر من تاريخ نشرها. والمكلّف بهذا الخطاب هم الكافة بمن في ذلك المحاكم المحلية للإمارات الأعضاء في الاتحاد. فطبيعة التشريع الاتحادي لا يصلح معه إلا البسط والنفوذ على كل إقليم الدولة.

أما التشريع المحلي فإن المخاطب به هم الأفراد والمؤسسات الواقعة ضمن حدود الإمارة التي أصدرت القانون. ولا يتخيل أو يُعقل أن يخاطب النص التشريعي المحلي مؤسسات اتحادية. فكيف للقضاء الاتحادي أن يستحضر نصوص التشريع المحلي غير المخاطب به ويقوم بتطبيقه والقضاء بموجبه؟ وما هو الأساس الدستوري لمثل هذا الاستحضار؟ أليس من شأن مثل هذا الاستحضار في رحاب القضاء الاتحادي الاستعاضة عن إرادة المشرع المحلى بالمشرع الاتحادى؟ ألا يعد هذا وضعا للقوانين في غير موضعها وتطبيق للنصوص في غير مكانها؟ ويتأكد هذا بوجود حكم سابق للمحكمة الاتحادية العليا أصدرته برئاسة المستشار الفاضل الدكتور عبدالوهاب عبدول مؤداه أن نطاق سريان القوانين المحلية لا يتعدى الإمارة التي أصدرتها.

ولا حجة لمن يستدل على غير ذلك بقيام القضاء الاتحادي بمراقبة دستورية القوانين المحلية الصادرة في الإمارات. فمراقبة دستورية القوانين وظيفة أنيطت بالمحكمة الاتحادية العليا بموجب صريح المادة ٩٩ من الدستور. كما أن مراقبة دستورية القوانين أمر يختلف تمام الاختلاف عن قيام المحكمة بتطبيق قانون معين.

الأمر الآخر الذي يجب الإشارة إليه هو أن الدستور قد نص في المادة 121 على أن الاتحاد ينفرد بالتشريع في الشؤون التالية ” ……… التشريعات الكبرى المتعلقة بالجزاء”. وفي معرض مثل هذا النص الصريح لا يمكن القول بانفراد الإمارات الأعضاء في الاتحاد بإصدار تشريعات جزائية مستقلة. وقد تتضمن بعض التشريعات المحلية خارج ناطق الجزاء موادا عقابية. ويعد هذا أمراً مقبولاً ولكن لا يقبل أن تصدر إمارة تشريعاً جزائياً مستقلا لمخالفة ذلك صريح نص المادة 121 من الدستور.

فضلاً عن ذلك كله فقد جانب الحكم قاعدة قانونية صريحة في مجال القوانين الجزائية وهي قاعدة تطبيق القانون الأصلح للمتهم. حيث أن واقعة الاتهام على ضوء أحكام المرسوم بقانون اتحادي رقم 15 لم تعد تشكل جريمة يعاقب عليها القانون باعتبار أن القانون الأخير هو الأصلح للمتهم.

وهناك نقطة قانونية أخرى تسترعي الانتباه وهي أن إلغاء النص العقابي قد أعاد الفعل إلى الإباحة الأصلية ولم يعد ممكنا أن يقوم القضاء بإخراج الفعل من دائرة الإباحة وإعادة تجريمه مرة أخرى بعد إفصاح المشرع عن رغبته في الإباحة.

إن الحكم الصادر من المحكمة الاتحادية العليا قد يكون مبعثه الحرص على المصلحة العامة والسلوك العام ولكن مثل هذا الحرص لابد أن يكون منضبطاً بالإرادة التشريعية التي تعبر عنها القوانين إما بصريح النص أو بعموم المعنى.

عن sherin

شاهد أيضاً

“كنت بمطار صنعاء لحظة الضربة الإسرائيلية”.. رئيس منظمة الصحة العالمية يعلق

 شنت القوات الإسرائيلية سلسلة من الضربات على العاصمة اليمنية، صنعاء، ومدينة الحديدة غرب البلاد، الخميس، مما أسفر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *