تطهير الجسم من الطقوس الفردية اليومية أصبح عادة في أجزاء كثيرة من العالم، سواء كان عبارة عن حمام سريع بالبخار في الصباح أو حمام أطول للاسترخاء في الليل. ولكن تاريخياً، كانت عادات الاستحمام مشبعة بمعانٍ أعمق.
وفي اليونان القديمة، كانت الحمامات مكاناً للرجال للاغتسال بعد ممارسة الرياضة أو تبادل النقاشات الفلسفية، بينما في العصور الوسطى، توقف الرجال والنساء في أوروبا عن الاستحمام تماماً، خوفاً من انتشار المرض.
وحلت العطور ومراهم التطهير محل البخار والماء، بزجاجات مزينة بشكل متقن تربط الترف بالصحة.
وفي فترة الستينيات والسبعينيات، أصبحت الحمامات في مدينة نيويورك ملاذات آمنة للرجال مثليي الجنس للاسترخاء، والتواصل، والبحث عن المتعة.
ومن خلال الأعمال الفنية، يرسم كتاب بعنوان “الجسد. النظرة. القوة: التاريخ الثقافي للحمام” مراحل تطور أحواض الاستحمام وأدواته عبر الثقافات والعصور، مما يعكس كل فترة في تصميمها والغرض منها.
وذكرت المنسقة كاميل فاوكورت في الكتاب “يمكن أن يبدو الحمام موضوعاً تافهاً أو مسلٍ، ولكن في الحقيقة يتبين أنه مكان ووقت للتنشئة الاجتماعية، حيث يكشف المرء نفسه، نتعرى حرفياً، نتفاعل مع أنفسنا وأجسادنا وعلاقتنا الحميمة، ولكن في سياق الحمامات العامة أيضاً مع الآخرين”.
وأضافت فوكوورت أن “هذا المكان ليس هناك ما يعادله في تفاعلاتنا الاجتماعية اليومية”.
مكان للنقاء وأدوار الجنسين
ونشأت عبارة “النظافة من التقوى” من خطبة من القرن الثامن عشر، ولكن العلاقة بين النظافة الجيدة والنقاء الديني تعد قديمة.
وفي كتاب “الجسد. النظرة. القوة”، تشير فلورنس هودوفيتش وهي أمينة متحف، إلى الكتاب المسرحيين اليونانيين القدماء الذين أشاروا إلى أن براعة الشخص أو الفجور كان يعتمد على درجة حرارة الماء الذي يفضلون الاستحمام فيه.
وفي عمل يوناني من الفخار منذ حوالي 425 عاماً قبل الميلاد، كان الإله إيروس يطير فوق امرأة تستحم، وكتبت هودوفيتش وفاوكورت أنه يشير إلى أن غسل النفس “كان يمارس قبل الزواج لتطهير جسد العروس وضمان خصوبتها في المستقبل”.
ورغم أنه في مصر القديمة، تظهر الآثار المعمارية أن الرجال والنساء قد استحموا معاً، فقد تم فصل الإغريق والرومان القدماء بحسب الجنس. وتُظهر صور روتين الاستحمام في أعمالهم الفنية رجالًا رياضيين عراة يزيلون الأوساخ عن أجسادهم بعد تمرين شاق، بينما يعرض روتين النساء على أنه أكثر خصوصية، إذ في بعض الأحيان كن يرتدين ملابس أو عاريات، ويقفن حول مرجل الماء.
وكان الإغريق والرومان القدماء يحرصون على النظافة، ولكن أتباع الديانة المسيحية الأوائل مثل القديس أوغسطينوس في القرن الرابع “كان لديهم حذر من الأشياء سريعة الزوال”، وكان أحدها الجسد بالتأكيد، وفقاً لما كتبته فاوكورت.
وبحلول العصور الوسطى، عارضت الكنيسة بشدة “الأخلاق الفاسدة” للحمامات، والتي لم تعد تفصل بين الرجال والنساء، وغالباً ما كانت تسهل الدعارة.
وبدايةً من القرن الرابع عشر، أصبح وباء الطاعون، الذي انتشر وتضاءل في جميع أنحاء أوروبا، في النهاية ناقوس الموت للاستحمام لمئات السنين.
وفي القرن السادس عشر، ساد الاعتقاد بأن تبخير الجلد أو غمره في الماء يفتح المسام للأمراض، لذلك أغلقت حمامات البخار العامة، واتخذ الناس إجراءات تطهير بدون ماء، ووضع المراهم على القدمين واليدين والفم والأعضاء التناسلية. وتم إخفاء الروائح بالعطور وأصبحت الزجاجات المزينة بشكل متقن رموزاً لمكانة الأثرياء.
وكتبت فاوكورت أن “المواد الدقيقة التي صنعت منها والجودة الاستثنائية للزخرفة تدل على الاهتمام المستمر بالمحافظة على المظهر والنظافة الجسدية”.
كما قام الأثرياء بتكليف الأعمال الفنية حول الاستحمام كذلك، والاستفادة من فناني الروكوكو بما في ذلك جان أنطوان واتو، وفرانسوا بوشيه، لرسم شخصيات نسائية عارية تغسل نفسها على نطاق واسع.
وبحلول القرن التاسع عشر، بدأ الاستحمام بالعودة إلى أوروبا وأمريكا، مدفوعاً بمعرفة جديدة من علماء الأحياء الدقيقة الذين حددوا الجراثيم والفوائد الصحية للصابون، ولكن الأمر استغرق حتى نهاية القرن قبل أن يتمكن أي شخص باستثناء الأثرياء من شراء غرف كاملة مخصصة لهذه الممارسة.
واستغرق الأمر أجيالاً أيضاً لدحض فكرة أن غمر النفس في الماء قد يؤدي إلى الإصابة بالأمراض.
ومع ذلك، كانت المواقف الأوروبية تجاه الاستحمام بعيدة كل البعد عن كونها عالمية.
وتشير فاوكورت إلى أنه في الشرق الأوسط كانت هناك تقلبات أقل في المواقف المحيطة بالاستحمام. ومن الإمبراطورية العثمانية حتى اليوم، ظل الحمام التركي شائعاً، على الرغم من تراجع استخدامه العملي مع ظهور الحمامات المنزلية.
مكان للقوة والضعف
ولطالما كانت للحمامات آثار سياسية أيضاً، وفي روما القديمة، كانت بمثابة مجمعات مترامية الأطراف للتواصل الاجتماعي، ولكنها كانت أيضاً مواقع ذات روعة معمارية باهظة الثمن “عملت على تأسيس وتأكيد قوة الإمبراطور”، حسبما ذكره المنسق هندريك بوندج في كتاب “الجسد. النظرة. القوة”.
ومع ذلك، يعتبر حوض الاستحمام في المنزل من أكثر الأماكن ضعفاً. وكتب بوندج: “عندما تكون عارياً، تكون ضعيفاً؛ ولهذا السبب فإن مشهد الاستحمام في فيلم سايكو لألفريد هيتشكوك يعد مروعاً للغاية”.
وبعد قرن ونصف، خلال الحرب العالمية الثانية، اعترف المصوران الصحفيان لي ميلر وديفيد إي شيرمان أن حوض الاستحمام موقع يمكن فيه تخريب السلطة واحتكارها من خلال التصوير الفوتوغرافي.
وفي 30 أبريل/ نيسان من عام 1945، وهو اليوم الذي تم فيه تحرير ميونيخ من الحكم النازي، دخلت ميلر وشيرمان شقة هتلر الفارغة، والتُقطت صورة لميلر في حوض الاستحمام الخاص بهتلر.
وفي إحدى الصور، تجلس ميلر عارية ومتحدية، وتحدق أمام الكاميرا، وخلفها صورة مؤطرة لهتلر مسندة على الحافة، وحذائها الملطخ بأوساخ معسكر اعتقال داخاو الذي تم تحريره حديثاً، مطبوعة في جميع أنحاء بساط حمامه.
وذكرت مساعدة القيم على المعارض كارولين بوتهاست في الكتاب أن “رسالة الصور واضحة، أي علاقات القوة قد تغيرت”.
وأضافت: “الأمريكيون تقدموا إلى المجال الأكثر حميمية للعدو. لقد استولوا عليه واحتلوه بأجسادهم. وهنا، يصبح حوض الاستحمام مرحلة تحول في السلطة السياسية”.